ما أكثر ما نشتغل بعيوب الناس ، ناسين أو
متناسين أموراً مهمة :
الأولى :
أنهم بشر مثلنا ، وأنهم يقعون في الخطأ ويقع منهم الخطأ .
الثاني :
أننا مُـلئنا عيوباً لو اشتغلنا بها وبإصلاحها لأشغلتنا عن عيوب
الناس .
الثالث :
أن من تتبّع عورات الناس تتبّع الله عورته ، فالجزاء من جنس العمل .
الرابع :
أننا أغرنا على الإنصاف فقتلناه غيلة ! فنظرنا في سيئات أقوام
وأكبرناها
وأعظمناها ، وكتمنا حسناتهم .
وقديماً قيل :
أرى كل إنسان يرى عيب غيره
*** ويعمى
عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه *** ويبدو له العيب الذي لأخيـه
روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى : ( بل الإنسان على
نفسه
بصيرة ) قال : إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم ،
غافلاً عن
ذنوبه .
ومن كان كذلك فقد تمّت خسارته ، كما قال بكر بن عبدالله : إذا رأيتم
الرجل
موكلاً بعيوب الناس ، ناسيا لعيبه ، فاعلموا أنه قد مُـكِـرَ بِهِ .
وكم هو قبيح أن ينسى الإنسان عيوب نفسه ، وينظر في عيوب إخوانه
بمنظار
مُـكـبِّـر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يبصر أحدكم القـذاة في عين أخيه
وينسى
الجذل أو الجذع في عين نفسه . قال أبو عبيد : الجـذل الخشبـة العالية
الكبيرة
. رواه البخاري في الأدب المفرد مرفوعاً وموقوفاً ، وصحح الشيخ
الألباني
وقفـه على أبي هريرة ، ورواه ابن حبان مرفوعاً - أي من قول رسول الله
صلى
الله عليه وسلم - .
ولنتذكّر في هذه العجالة أن الجزاء من جنس العمل .
روى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :
كان
بالمدينة أقوام لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس ، فأسكت الله الناس
عنهم
عيوبهم ، فماتوا ولا عيوب لهم ، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم ،
فتكلموا
في عيوب الناس ، فأظهر الله عيوباَ لهم ، فلم يزالوا يعرفون بها إلى
أن ماتوا
.
وروى الجرجاني في تاريخ جرجان عن أحمد بن الحسن بن هارون أنه قال :
أدركت
بهذه البلدة أقواما كانت لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس ،
فـنُـسيَت عيوبهم
.
قال ابن رجب – رحمه الله – :
وقد روى عن بعض السلف أنه قال
: أدركت
قوما لم يكن لهم عيوب ، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبا ،
وأدركت
قوما كانت لهم عيوب ، فكفوا عن عيوب الناس فـنُـسيت عيوبهم ، أو كما
قال .
وشاهد هذا حديث أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
يا معشر
من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ،
ولا
تتبعوا عوارتهم ، فإنه من اتبع عوراتهم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع
الله
عورته يفضحه في بيته . خرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وخرج الترمذي
معناه من
حديث ابن عمر .
واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما :
من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ،
فإنه
لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها ؛ لأن ذلك وهذا هو الذي وردت
فيه
النصوص وفي ذلك قال الله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة
في الذين
آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) . والمراد إشاعة الفاحشة
على المؤمن
فيما وقع منه ، واتّهم به مما بريء منه كما في قضية الإفك .
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر
العصاة ،
فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب .
ومثل هذا
لو جاء تائبا نادما وأقر بحده لم يفسره ولم يستفسر بل يؤمر بأن يرجع
ويستر
نفسه ، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماعزا والغامدية ،
وكما لم
يستفسر الذي قال : أصبت حدا فأقمه عليّ ، ومثل هذا لو أخذ بجريمته
ولم يبلغ
الإمام ، فإنه يشفع له لا يبلغ الإمام ، وفي مثله جاء في الحديث عن
النبي صلى
الله عليه وآله وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم . خرجه أبو داود
والنسائى
من حديث عائشة .
والثاني :
من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما
قيل لـه
؛ هذا هو الفاجر المعلن ، وليس لـه غيبة كما نصّ على ذلك الحسن
البصري وغيره
، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود ، وصرح بذلك بعض
أصحابنا
، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : واغد يا أنيس على
امرأة هذا ،
فإن اعترفت فارجمها . انتهى كلامه – رحمه الله – .
قال القرطبي في التفسير :
قال بكـر بن عبد الله المزني :
إذا
أردت أن تنظـر العيوب جملة فتأمل عيّـاباً ، فإنه إنما يعيب الناس
بفضل ما
فيه من العيب … وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب
غيره …
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا *** فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكـروا ***ولا تعـب أحـداً منهم بما فيكا
انتهى .
فيا أخي :
ويا أختي :
كيف إذا كان من يُوقع في عرضه
من أهل
العلم والصلاح ؟
ثم نرميه بالبدعة أو المروق من الدّين دون بيّنة ولا تثبّت .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه
الله
ردغة الخبال حتى يخرج مما قال . رواه أبو داود ، وغيره ، وصححه
الألباني –
رحم الله الجميع –
فليحذر الذين يخوضون في أعراض عباد الله ، خاصة الصالحين والمُصلحين .
فيا أخوتاه :
نحن – بَـعْـدُ - ما فرغنا من
عيوب
أنفسنا حتى نشتغل بعيوب غيرنا !
ولعل من اشتغل بعيوب الخلق ، يُبتلى بالانشغال عن عيب نفسه حتى تعطب .
ويا أخي الحبيب :
ويا أختي الكريمة :
إذا شئت أن تحيا سليماً من
الأذى =
ودينك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ = فكلّـك عورات وللناس ألسـن
وعينك إن أبدت إليك معايباً = فدعها وقل : يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى = وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ
وصية مُحب :
أن نُقبل على أنفسنا فنزكّيها
بالعلم
النافع ، والعمل الصالح ، ونترك الاشتغال بعيوب الناس ، فإننا لن
نُسأل في
قبورنا إلا عن رجل واحد : ( ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ )
وإني لأحسب أنه سلِم منّـا اليهود والنصارى ، ولم يسلم مِنّـا
إخواننا ، كما
قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – .