أولا ً :- فإني أحمد الله لي ولكم ...
هل يدخل الشرك الأصغر مع كبـائر ِ الذنوب !
ويكون صاحبه تحت المشيئة !
أم لا بد له أن يعذب !
والمسألة للمذاكرة والفائدة ...
فمن كان عنده شيء نستأنس به فلا يبخل علينا ...
أصل هذه المسألة هو قول الله عزّ وجلّ:{ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء}
(يُشركَ) فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، فأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، هذا المصدر إن قدرناه نكرة صار ( إشراكا به) كانت هذه النكرة في سياق النفي المتقدم في قوله { لا يغفر} والنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما هو مقرر في بابه من علم الأصول، فيكون تقدير الكلام إن الله لا يغفر أيّ إشراكٍ به، فيدخل الشرك الأصغر في هذا العموم، وعليه يستحق صاحبه العذاب، فلا تشمله المشيئة التي في آخر الآية، والتي نص أهل السنة كما ورد في أحاديث كثيرة أنها تلحق أهل الذنوب والمعاصر الصغائر والكبائر.
* وإذا قدرنا المصدر المنسبك من أن والفعل المضارع معرفةً ( الإشراك به ) انصرف لفظ الإشراك إلى الشرك المعهود ذكره في القرآن وهو الأكبر فتكون( ال ) للعهد الذكري، وعليه يكون الشرك الذي نص عليه في الآية بأنه لا يُغفر هو الشرك الأكبر، ويبقى الشرك الأصغر داخلا تحت عموم المشيئة.
ولأجل هذا التردد اختلف قول شيخ الإسلام رحمه الله فقال مرة الشرك الأصغر لا يغفر وصاحبه لابد أن يأخذ جزاءه ولو لم يخلد في النار ويدخل الجنة بعد ذلك، ومرة قال إنه داخل تحت المشيئة.
قال الشيخ الإمام ابن عثيمين رحمه الله:
الأولى قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } .
{ لا } : نافية، { أن يشرك به } : فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره: أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكاً به، فالشرك لا يغفره الله أبداً، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي، كالزنا والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة، أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13].وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر، كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر، لأن قوله: { أن يشرك به } أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكاً به، فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.قوله: { ويغفر ما دون ذلك } ، المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك.اهـ القول المفيد(1/140 ـ 141)دار ابن الجوزي طبعة ثلاثة مجلدات، الطبعة الأولى في جمادى الأولى 1417هـ
وجزم رحمه الله في(1/218) بأن الشرك الأصغر لا يغفر فقال:
قال ابن مسعود رضي الله عنه (( لأن أحلف بالله كاذبا أحبّ إلي من أحلف بغيره صادقا))وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة، لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر، بخلاف الكبائر، فإنها تحت المشيئة.اهـ
وفي (1/267) قال رحمه الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله لو كان أصغر، لعموم قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116]، و { أن يشرك به } مؤول بمصدر تقديره: شركاً به، وهو نكر في سياق النفي، فيفيد العموم.
وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن المراد بقوله: { إن يشرك به } الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة، فإنه تحت المشيئة، وعلى كل، فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً"
وفي الحاشية رقم (1) من الموضع الأول(1/141)
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في ((جامع الرسائل))(2/254):
وأعظم الذنوب عند الله الشرك به، وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والشرك جليل ودقيق وخفي وجلي.اهـ
وقال في الرد على البكري(ص146): وقد يقال الشرك لا يغفر منه لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك أي : الأصغر يموت مسلما، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة. اهـ
وقال ابن القيم في (( إغاثة اللهفان ))(1/98): فأما نجاسة الشرك، فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة؛ فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر كيسير الرياء. اهـ
ونسأل الله أن يكون الشرك الأصغر مما يدخل تحت المشيئة، عسى الله أن يتجاوز ويعفو عنا بمنّه وكرمه، وإلا فمن هذا الذي يسلم من يسير الرياء، نعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم ونستغفره لما لا نعلم، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين.
قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح كتاب التوحيد في باب الخوف من الشرك :
قال الشيخ رحمه الله (وقول الله عز وجل : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " ) هذه الآية من سورة النساء فيها قوله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ).
والمغفرة: هي السَّتر لما يُخاف وقوع أثره.
وفي اللغة: يقال غَفَرَ إذا سَتَرَ ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مِغْفَرَة؛ لأنه يستر الرأس ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه على الرأس.
فمادة (المغفرة) راجعة إلى ستر الأثر الذي يُخاف منه، والشرك أو المعصية لها أثرها إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة، أو فيهما جميعا، وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يُغفر ذنبه، وذلك بأن يُستر عليه، وأن يُمحى أثره، فلا يؤاخذ به في الدنيا، ولا يؤاخذ به في الآخرة، ولولا المغفرة لهلك الناس.
قال جل وعلا هنا : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (لَا يَغْفِرُ) يعني أبدًا، (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يعني أنه بوعده هذا لم يجعل مغفرته لمن أشرك به.
قال هنا : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ):
( قال العلماء: في هذه الآية دليل على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركًا أكبر أو أشرك شركًا أصغر، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة؛ بل يكون بالموازنة، ما يُغفر إلاَّ بالتوبة؛ فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، قد يُغفر غير الشرك كما قال : (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
فجعلوا الآية دليلًا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة, وجه الاستدلال من الآية أن قوله (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) هذه (أَنْ) موصول حرفي مع (يُشْرَكَ) فِعل، وتُقَدَّر (أَنْ) المصدرية مع ما بعدها من الفعل- كما هو معلوم- بمصدر؛ والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمّت, قالوا: فهذا يدل على أن الشرك هنا الذي نفي الأكبر والأصغر والخفي, كل أنواع الشرك لا يغفرها الله جل وعلا؛ لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله جل وعلا هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي أعطى، وهو الذي تفضّل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره؟ لا شك أن هذا ظلم وهو ظلم في حق الله جل وعلا، ولذلك لم يُغفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر علماء الدعوة.
( قال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) دالة على العموم، ولكن هذا عموم مخصوص؛ هذا عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يعني الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأمّا ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مرادا به الخصوص، لماذا؟ قالوا: لأن القرآن فيه هذا اللفظ (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ونحو ذلك، ويُراد به الشرك الأكبر دون الأصغر غالبا, فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، قال جل وعلا " وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ " [المائدة:72]، (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) هنا (يُشْرِكْ) أيضا فعل داخل في سياق الشرط فيكون عامّا. فهل يدخل الشرك الأصغر والخفي فيه؟ بالإجماع لا يدخل؛ لأن تحريم الجنة وإدخال النار والتخليد فيها إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلّنا ذلك على أن المراد بقوله (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) أنهم أهل الإشراك الشرك الأكبر، فلم يدخل الأصغر، ولم يدخل ما دونه أو أنواع الأصغر، فيكون إذن فهم آية النساء على فهم آية المائدة ونحوها، " وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " [الحج:31] في الشرك الأكبر، ونحو ذلك.
فيكون- إذن- على هذا القول، المراد بما نُفي هنا أن يغفر الشرك الأكبر.
ولما كان اختيار إمـام الدعوة كما اختيار عدد من المحققين؛ كشيخ الإسلام وابن القيم وكغيرهما: أن العموم هنا للأكبر و الأصغر والخفي؛ بأنواع الشرك. قام الاستدلال بهذه الآية صحيحا؛ لأنّ الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يُغفر فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف؛ إذا كان الرياء لا يُغفر, إذا كان الشرك الأصغر؛ الحلف بغير الله، أو تعليق التميمة أو حلقة أو خيط، أو نحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر؛ ما شاء الله وشئت، نسبة النعم إلى غير الله، إذا كان لا يُغفر؛ فإنه يُوجب أعظم الخوف منه، كذلك الشرك الأكبر. أهـ