كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه أن يتعرفوا على تلك الأحوال والأهوال، وجاء في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام التفصيلات الكاملة التي لا توجد في غيرهما، فإذا جئت إلى التوراة وإلى الإنجيل وما يتبعهما من الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى لا تجد الحديث عن هذه الأحوال والأهوال إلا حديثاً هو نزر قليل، ومن ثم رأينا في عالم اليوم -وخاصة عند النصارى وهم الكثرة الغالبة اليوم -رأينا مادية طاغية تظهر آثارها مشرقاً ومغرباً.
أما نحن المسلمين فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالى وأنعم علينا بالإسلام الذي جاءت فيه تفاصيل تلك الأحوال والأهوال وكأنما نراها رأي العين، لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وما يكون لمثلي وأنا العبد الفقير المذنب المقصر أن أنقل إليك بعضاً من هذه الأحوال والأهوال، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياك في تلك الأحوال والأهوال من العاملين الفرحين المسرورين الفائزين.
سنذكر في هذا البحث إن شاء الله تعالى بعض مظاهر هذه الأحوال والأهوال، ولكن ينبغي أن يستقر في نفس كل واحد منا وهو يقرأ عرضاً مختصراً عن بعضها وأحداثها استشعار حقائق تلك الأهوال والأحوال، ويصور نفسه وكأنه ذلك الذي تتحدث عنه الحادثة، أو تشرح حاله الآية، أو يبين أمره حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
.
الموت وأهواله:
لنقف مع بعض تلك الأحوال والأهوال، ونبدأها بذلك الأمر الذي كتبه الله على جميع الخلائق، إنه الموت الحق الذي لا شك فيه، والدليل الذي نشاهده كل يوم بأعيننا، نودع فيه أناساً كثيرين من الأحباب والأصحاب، بل حتى من الأعداء؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى فيه أن الله كتبه على الجميع ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[الأعراف:34].
لحظات الوفاة
وأول حدث من أحداث الموت هو أن الإنسان إذا جاءه الموت فقبل قبض روحه تحضر ملائكة الموت، فملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صور فظيعة مخيفة.
ففي حديث البراء بن عاجمجراوى عند أبي داود وغيره -وهو حديث صحيح- يقول فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط -وهو الطيب وما يتبعه مما يوضع بين الأكفان- من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد بصره)، وهذا كله قبل الموت عند حضور موت المؤمن، وهذا دليله قول الله تبارك وتعالى(( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))[فصلت:30].
إنها حالة الموت يبشر بها المؤمن بالله سبحانه وتعالى، ويا لها من حالة ما أطيبها للمؤمن وإن كان أهله وأحبابه من ورائه في ألم شديد، لكن شتان بين الحالتين، أولاد وأحباب يبكون، والميت مبتسم يستقبل الملائكة بهذه الأشكال الطيبة، إنه فرِحٌ مسرور في لحظة هي من أشد اللحظات التي تمر على الإنسان. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: يا أيتها النفس المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها)، هذه حالة للمؤمن الصادق.
الحالة المقابلة لها، هي من الأهوال الفظيعة، يقول الصادق المصدوق في نفس الحديث: (وإن العبد الكافر -وفي رواية: الفاجر- إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه، معهم المسوح)، والمسوح: هي ما يلبس من الشعر من الألبسة والأجمجراوىية الغليظة، تلك التي يلبسها البعض تقشفاً؛ قال: (معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده)، يعني أن الروح يصيبها الرعب من هذا الخطاب الرهيب فتنكص إلى الجسد لا تريد أن تخرج؛ لأنها إنما تقبل على غضب من الله، قال: (فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، قال: فتتقطع معها العروق والعصب)، يعني أن ملك الموت ينزع هذه الروح الخبيثة نزعاً من أعماق العروق والعصب، ويا لها من رحلة لهذه الروح حين تخرج هذا المخرج الذي وصفه لنا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم.
ومصداق حضور الملائكة سود الوجوه قول الله تبارك وتعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[الأنفال:50-51].
حالات الناس في السكرات:
حالة أخرى هي سكرات الموت، ويكفي في بيان سكرات الموت أن سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه الموت كانت عنده ركوة فيها ماء، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يدخل يده في الركوة ويمسح بها جبينه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، وإذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بحال من عداه، ثم كيف بنا نحن المساكين المذنبين! ومن هنا فإن أعظم من يعاني من السكرات الكفار، فإنهم يعانون من السكرات أشدها، وتلك عقوبات تكون لهؤلاء معجلة؛ لأنهم كفروا بالله وبيوم الحساب.
وفي حال السكرات تكون للناس حالتان:
الحالة الأولى: الكافر والعاصي يتمنيان الرجعة، قال الله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)) [المؤمنون:99-100]، فالكافر يتمنى العودة ليسلم ويؤمن بالله، وأما العاصي فإنه يتمنى العودة ليتوب مما فرط فيه من الذنوب والمعاصي في حياته الدنيا.
أما الحالة الثانية: فإن المؤمن يفرح بلقاء ربه، وكيف لا يفرح والملائكة تتنزل عليه بتلك الصور المشرقة تبشره؟ روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
إنه حديث مؤثر في النفس؛ لأننا جميعاً نكره الموت ونفر من الموت، فهل نحن جميعاً من الصنف الثاني؟ لا. لقد كانت بصائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نور من ربها، فعندما قال المصطفى هذا الحديث قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا لنكره الموت. تعني: ما الصنيع؟ فإذا كنت تقول: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فإننا نكره الموت بالطبيعة والجبلة، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام موضحاً ومفرجاً للهموم: (ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاءَ اللهِ وأحب اللهُ لقاءَه).
وعليه فالموت هو عنوان اللقاء، واللقاء إنما يكون يوم القيامة، فالمؤمن يبشر بالرضوان فيفرح ويستبشر فيحب ما أمامه ويفرح به، فإذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه؛ قال: (وأما الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره مما أمامه، فكره لقاءَ الله فكره اللهُ لقاءه).
وروى أبو سعيد الخدري -كما في صحيح البخاري - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجنازة إذا احتملها الرجال إن كانت صالحة قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها -وأهلها في الغالب هم حملة نعشها-: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)، إنها حالة الموت وسكرات الموت، فماذا تختار؟ حالتان للموت لا ثالثة لهما، حالة البشرى والسعادة، وحالة البؤس والشقاء.
أما المشمرون في مسألة سكرات الموت، فقد روى الترمذي في حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة) إنها المجازاة، قدم نفسه لربه تبارك وتعالى فأعاضه الله ألا يكون معه من السكرات إلا ألم القرصة، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يرزق الشهادة في سبيله.
حالات الناس في حسن الخاتمة وسوءها:
وفي لحظة الموت تبرز حالتان كبريان ينقسم إليهما الناس:
الأولى منهما: حسن الخاتمة.
والثانية: سوء الخاتمة.
وسنبدأ بالحديث عن سوء الخاتمة – نسأل الله لنا ولكم العافية- وهي :
أن يأتي الموت الإنسان وهو غير مستعد له، وأعظم ما يكون من سوء الخاتمة الموت وهو على ضلالة وكفر ونفاق، أو على معصية،
فسوء الخاتمة على درجتين:
أعلاهما وأخطرهما: أن يموت على شرك أو كفر، أو يموت جاحداً أو شاكاً في دين الإسلام، أو تاركاً للصلاة ونحو ذلك، فهذه خاتمة عنوانها هو الخسران المبين.
وحالة أخرى دونها: وهي أن يموت على الإسلام، لكن يموت مصراً على المعاصي غير تائب، فهذا له الحسرة بحسب ذلك، وحسبك بإنسان يموت وهو على مسكر، أو على عقوق والدين، أو ذاهب لخنى وفجور، أو يردد أغنية ماجنة، أو غير ذلك من أحوال سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.
وسوء الخاتمة لها أسباب - يجب أن يقف عندها كل مسلم - ، منها:
فساد الاعتقاد، والإصرار على المعاصي، وسلوك طريق أهل الاعوجاج، والتعلق بالدنيا وعبادتها، ونسيان الآخرة، ومرافقة أصحاب السوء الذين قد يموت الإنسان وهو معهم.] .
يتبع ان شاء الله