[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
يقولون إن صورة واحدة تغني عن ألف كلمة، ويقول الخبثاء: لكنك تحتاج إلى ست كلمات كي تقول هذا !. تذكرت هذه المقولة عندما رأيت رسمًا كاريكاتورًيا رائعًا لفنان موهوب، يمثل إسرائيل غولاً ذا عدة أذرع ينقض بها على أقزام عرب شكلهم يوحي بالشفقة، والرسم يلخص عدة مقالات كاملة تتكلم عن دولة عصرية تتمتع بعلاقات دولية ذكية وتكنولوجيا وسلاح متطور ونظام ديمقراطي حقًا، فكيف لا تتوقع أن تقهر هذه الدولة ربع مليار عربي يمزقون أنفسهم طيلة الوقت ؟.
لا يملك المرء إلا أن يشعر بإعجاب بهذه الدولة، لكنه إعجابك بالبعوضة أو بكتريا الطاعون أو فيروس الإيدز .. لا أحد يحب فيروس الإيدز لكنه يبهرك علميًا عندما تدرس تركيبه.. كيف إنه متكيف وانسيابي ومصمم بدقة لمهمة القتل. كيف استطاعت هذه المجموعة من شذاذ الآفاق القادمين من أوروبا، المسلحين بأسطورة أن يصيروا حقيقة تدعمها 300 قنبلة نووية، وأن يظلوا أحياء يومًا آخر وسط ربع مليار عربي يمقتونهم كالجحيم ؟. لابد أن تنبهر بهذه القدرة وتتساءل عن السبب الذي جعل هؤلاء يحركون المنطقة كلها تبعًا لمصالحهم وأجندتهم.
إسرائيل أداة بارعة متقنة، لكن هل تملك القدرة على البقاء حقًا ؟.. ستون عامًا فقط مرت عليها، تسببت خلالها في عدد لا حصر له من حروب شرسة وبحور من الدماء ومجازر ومآس وثأر لا يسقط بالتقادم، ومن الواضح أنها لا تذوب أبدًا في الوسط الذي غرست فيه ولا تتكيف .. كلما مرت الأيام تفاقم الأمر أكثر وازدادت العداوة .. حتى مع حال العرب الخامل الحالي، فهم مصرون على رفض هذا النبت السرطاني. هل تقدر إسرائيل فعلاً على الاستمرار ؟.. لا أعتقد ولا أتصور .. الجسم يطرد العضو الغريب المزروع مهما طالت المدة ما لم تمُتْ المناعة، والظاهر هنا أن المناعة لم تمُت . فلا أعتقد أن يهوديًا في العالم سيحتفل بمرور مائة عام على قيام دولة إسرائيل.
لست محللاً سياسيًا ، بل أعتمد على معرفتي بطبائع الأشياء، لكني وجدت في كلمات الراحل العظيم د.عبد الوهاب المسيري ما يؤكد هذا الرأي كثيرًا. عبد الوهاب المسيري ظل حتى آخر لحظة يؤمن أن نهاية إسرائيل قريبة جدًا .. بل إنه اعتبر أن فترة عشرين عامًا تفصلنا عن تلك النهاية طويلة جدًا، وهي أقرب إلى التفاؤل الصهيوني، ونحن نعرف طبعًا أن الرجل يعرف ما يقول، وأنه كرس أربعين عامًا من حياته لدراسة الصهيونية واليهودية، فلن يدهشني أن يعرف أكثر من الحاخامات أنفسهم. هناك مفكرون يهود كثيرون توقعوا الشيء ذاته، ومنهم الفرنسي (جاك أتالي) الذي كتب مقالاً شهيرًا عن هذا في الإكسبريس الفرنسية.
الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لم يقدر على أن يكون إحلاليًا بالكامل – كما حدث في أمريكا وأستراليا – أي أن يبيد السكان الأصليين ليحل محلهم، وقد نجح في هذا ما بين عامي 1948 و1967، ثم بعد عام 1967 وبعد ما ضم كتلة فلسطينية بشرية ضخمة، بدأ يعتمد على فكرة المعازل البشرية للسكان الأصليين والابارتايد، مع التركيز على فكرة المستوطنات لخلق واقع جديد على الأرض بحيث تصير العودة لحدود 1967 مستحيلة. الصراع والتحفز الحربي لفترة ستين عامًا شيء مرهق فعلاً، وقد بدأ هذا يظهر عليهم، لكنهم كذلك غير مستعدين للسلام .. هذا هو المأزق التاريخي الذي وقعت فيه إسرائيل .. تريد سلامًا لكنها كذلك لا تريد إعطاء أية حقوق للعرب ولا تريد التنازل عن حلم الأسطورة التي تعتبر هذا وطن اليهود الذي وعدهم الله به.. المشروع كما يراه الباحث الكبير مليء بالشروخ، لكنه لا يسقط لأن أسباب بقاءه تأتي من الخارج .. أي إن إسرائيل أقرب إلى كوب زجاجي مهشم لا يبقيه سوى يد الغرب التي تمسكه. لا تنس أن السبب في وجودها هو هواية أوروبا لتصدير مشاكلها للخارج .. يومًا ما سوف تتراخى قبضة الغرب عن هذا الكوب المزعج وعندها ....
المقاومة مهما كان الثمن الذي تبذله حققت الكثير جدًا، ومنه " فقدان المجتمع الإسرائيلي للثقة بنفسه إلي حد كبير، وانهيار الإجماع علي الاستيطان، وحدوث هجرة معاكسة من داخل إسرائيل، وتفكك الوضع الاقتصادي، إضافة إلي معاناة الجيش الإسرائيلي المستمرة".. وللمرة الأولى منذ ميلاد إسرائيل رسمت لنفسها حدودًا بعد ما كانت دولة بلا حدود .. إن تطلعاتهم تنكمش ..
حتى على مستوى الأسطورة نفسها فإسرائيل مخالفة للديانة اليهودية، وخطيئة توراتية كبرى اسمها (ضحكت هاكيتس) أي (التعجيل بالنهاية)، وهذا يعني أنه تم تغيير العقيدة اليهودية من الداخل من أجل أغراض إمبريالية توسعية .. يجب ألا ننسى أن جماعة (ناطوري كارتا) ما زالت تحرق العلم الإسرائيلي كل عام باعتبار إسرائيل وطن الزنادقة. الأغرب أن المسيحيين الإنجيليين أهم سند للصهيونية يدعون في الواقع إلى تجميع اليهود في فلسطين تمهيداً إما لتنصيرهم أو لإبادتهم. طبعًا لا أحد يذكر هذا الجزء بتاتًا.
يرى د. المسيري – أستعمل الفعل المضارع باعتبار كلماته باقية - أن الإسرائيليين يواجهون كمّاً عربياً وكيفاً عربياً، فالإنسان الفلسطيني ينمو ويستوعب العصر، فلم يعد هو مزارع البرتقال البسيط الساذج الذي يرقص الدبكة طيلة اليوم ثم يموت برصاصة في رأسه .. ويقول أستاذ جغرافيا في الجامعة العبرية: "الفلسطينيون سيهزموننا في غرف النوم ومدرجات الجامعة"، فلا تنس أن المرأة اليهودية هي أقل نساء العالم خصوبة، والمرأة الفلسطينية على العكس تمامًا.
تذكرت هذا كله وأنا أرى عصبية الإسرائيليين وتوحشهم في الحرب الحالية.. هناك انفلات أعصاب لا شك فيه، وقد رأيت متحدثهم الرسمي يوشك على سب مذيعة قناة الجزيرة، ويؤكد في صلف وعنف :"إسرائيل لا تحتاج إلى مبررات ولسوف نضرب المدارس والمساجد لأن إسرائيل دولة قوية جدًا". شيء ما في كلماته ولغته جعلني أشعر بالحقيقة .. هذا رجل خائف فعلاً.. لهذا هو متوحش ..
هذه حرب لا تجرؤ إسرائيل على أن تفكر في خسارتها .. لو خسرتها بعد عامين من هزيمتها في لبنان، ولو هزمت على يد ميليشيات محاصرة ضعيفة التسليح، فمعنى هذا أن هيبتها وقوتها الرادعة انتهت للأبد. ما معنى أن تخسر الحرب ؟.. عندما تقضي دولة نووية أسبوعين في محاولة القضاء على المقاومة أو منع إطلاق الصواريخ فلا تنجح، ويموت جنودها وتسقط الصواريخ – مهما كانت بدائية – على قواعدها، فهي تخسر فعلاً. عندما لا تجد حلاً سوى قصف البيوت الآمنة وذبح الأطفال، ولا تخجل من كون هذه أحقر حرب خاضتها في تاريخها، فإنها تخسر الحرب أو خسرتها فعلاً، وكما قال صديق لي ساخرًا: "يعني معنى كده أنه لو عند حماس دبابة واحدة كانت حتخلّص !!" .
إنهم يخسرون بلا توقف .. المظاهرات التي تغلي في العالم كله، والعالم العربي الذي يوشك على التوحد بمعجزة على مستوى الشعوب على الأقل، وحساب الدم الذي يتضخم بلا توقف .. ثم هم يخالفون قاعدة استراتيجية مهمة ذكرها هيكل على لسان أحد قادتهم: "يجب صيد مصر بالحربون وصيد الشام بالشبكة" .. أي أنه يجب التعامل مع مصر بعنف وقسوة، بينما يجب التعامل بكياسة جراحية مع أهل الشام. السبب هو أنه لا يجب ترك ثأر دائم مع الجيران .. طبعًا صار لدى كل بيت في فلسطين – والعالم العربي في الواقع - دين دم لابد من سداده يومًا ما.
نعم .. هم يزدادون عصبية وبالتالي توحشًا. الذئب المسعور هائج يضرب رأسه في القفص ويمكن أن يقضم أية يد يجدها أمامه، ولنا أن نتوقع عددًا لا بأس به من المذابح قبل أن تواجه إسرائيل الحقيقة: أنها فشلت مرة أخرى.
نعم .. لا أعرف المستقبل، ولا أعرف ما في جعبتهم ولا كم سوف يكلفنا هذا، لكن النظر لهذا الوضع يقول إن استمرار إسرائيل مستحيل .. لن تنجح في إبادة الفلسطينيين بالكامل، ولن تمتزج أبدًا بالوسط المعادي المحيط بها الذي يلفظها بلا توقف. أتذكر هنا كلمات أحد مفكريهم الساخرين الذي يوصي آخر من يغادر البلاد أن يطفئ النور ويغلق صنبور الماء قبل أن يركب الطائرة إلى بولندا!
جزء من مقال للدكتور. أحمد خالد توفيق