هيا يا بني أمامنا اليوم عمل شاق في الأرض.
هكذا جاءه النداء من أبيه يدعوه كالعادة لبداية اليوم بالعمل في أرضهم في مختلف أنواع الأعمال الشاقة الخاصة بالزراعة التي بدأ يمل منها ومن تعبها وطول وقتها .
جاءه النداء وهو أمام البحر يرمق أمواجه الساحرة وحركة الأسماك الكبيرة المختلفة الألوان وهيا تقفز من بعيد وتلعب وبعض المخلوقات التي اقتربت من الشاطئ تلهو في مرح.
سرح بخياله .. كم يتمنى أن يسمح له والده أن يترك الزراعة ويعمل بالبحر .. يستمتع به وبمائه .. يصطاد الأسماك من مختلف الأشكال والألوان ويعود بها للشاطئ .. لماذا يرفض أبوه .. أليس في هذا مصلحة لهم .. والرجوع بتلك الأسماك إلى الشاطئ غنيمة ؟؟
يابني .. مازلت صغيرا
قطعت عبارة والده أفكاره التي كانت تتوافد على رأسه بسرعة فالتفت إليه فوجد والده ينظر إليه نظرة تحمل خليطا عجيبا من الشفقة والحزن والخوف وهو يكمل كلامه :
ما زلت صغيرا يابني .. ليس الآن .. ليس هذا وقت الصيد .. الصيد له أهله .
أشاح وجهه بتبرم وقال :
يا أبي كل يوم تقول هذا الكلام .. أنا أريد الخير .. أريد النفع .. أن نعود بالأسماك فينتفع الجميع يا أبي.
رد عليه أبوه مشفقا :
يابني وهل أفلحت في زراعة الأرض حتى تفلح في الصيد ؟.. إن كل سنة تزرع شيئا إما أن يفسد زرعك وتخرج الأشجار سيقانها ضعيفة .. وإما تستعجل الثمر فتقطفها نيئة.
اندفع الابن وكأنما وجد بغيته :
ها أنت ذا يا أبي قلتها .. أنا لا أصلح للزراعة .. فلماذا لا تتركني أعمل بالصيد .
نظر الأب نظرة طويلة إلى الابن ثم قال :
إن لم تفلح في الزراعة فلن تفلح في غيرها .. إنما لم تفلح في الزراعة لا لقلة مهارة ولا لبوار الأرض .. ولكنك لا صبر لك ولا جلد على شئ .. لا استماع لنصائحي .. لا تتبع خطواتي أبدا .. تذكر كل سنة وأنا أوصيك بتقليب الأرض وحرثها وإخراج الحشائش الضارة منها وما شابه قبل الزراعة .. ولكنك بكسلك تصر على أن تتجاهل ذلك وتواصل الزراعة والأرض كما هي .. والنتيجة خيبة كل عام .
ثم أنك لا تجيد السباحة ولا الصيد .. إن ما تريده هو أشبه بمحاولة انتحار أنيقة لا أكثر ولا أقل .
ازادا ضيق الابن بكلام الأب فنظر بضيق وقال :
حسنا .. حسنا .. مللت هذا الكلام المحفوظ ..
ثم أشاح بوجهه جهة البحر وأخذ ينظر نظرة شوق طويلة فقال له أبوه ونبرات صوته تزادا عمقا وعمقا :
اعلم يابني أنه ما علمنا من أحد يذهب في هذا البحر ويعود إلا من رحم ربي .. الكل كان يظن أنه سيذهب ويعود بالأسماك واللآلئ
فمنهم من عاد خائبا .. ومنهم من لفظه البحر إلينا جثة هامدة وكأنما أمواجه تنظر إلينا شامتة قائلة .. خذوه لم يعد لي به حاجة .. ومنهم من لم يعود!!!
حمل الأب فأسه وحاجياته واستعد للانصراف والتفت مرة أخرى للابن قائلا :
ازرع أرضك اليوم وأنت تجدها تحت أقدامك .. قبل أن يأتي يوما تشتهي الأرض ولا أرض تحتك.
ثم أطرق رأسه في خيبة أمل وانصرف.
لم يعر الابن كلامه أي اهتمام واسترسل في أفكاره ..
ما أجمل البحر بأمواجه الجميلة وأسماكه الرائعة ..
لماذا أظل حبيس هذه الأرض ؟!
أنا لا أطلب شيئا خطئا .. ما أريده لمصلحة أهلي وناسي
لا أطلب حراما .. ولا أرتكب جرما
ومن قال أني لا أجيد السباحة .. أنا أحيانا تقدمت بعض الشئ في الماء
بل وأجيد الصيد .. أذكر مرة أني أمسكت بسمكة بيدي .. وعدت بها للشاطئ وإلى بر الأمان
هكذا هم دائما الكبار .. يريدون أن يحولونا اشباحا مثلهم ..
لا افكار جديدة .. لا ابتكار .. لا مغامرة .. ويفوتنا بذلك الخير الكثير
وكلما سألت واحدا منهم قال لك :
ما لم يكن في عهد أسلافنا حقا فلن يكون اليوم حقا
تبا لتراهاتهم .. اليوم سأتفرد بتلك الخطوة
ما شأني أنا أن كل من سبقني لم يستطع أن يصنع شيئا
هؤلاء حمقى مغفلون .. اليوم سأثبت لهم أني أختلف عن الجميع.
تقدم في خطوات بطيئة نحو البحر وأخذ ينظر إليه بلهفة ها هي خطوات ويحقق حلمه
وما ان لمست قدمه الماء بدأت العبارات تتدفق أمامه :
الكل كان يظن أنه سيذهب ويعود بالأسماك واللآلئ فمنهم من عاد خائبا ..
ازرع أرضك اليوم وأنت تحدها تحت أقدامك .. قبل ان يأتي يوما تشتهي الزراعة ولا أرض تحتك.
ومنهم من لم يعود!!! .. ومنهم من لم يعود!!! .. ومنهم من لم يعود!!!
نفض رأسه كأنما يلقى بتلك العبارات خارجها .. وانطلق في الماء.
بدأ يستمتع بالماء .. يشعر كأنه ولد من جديد .. حياة جميلة تلك حياة البحر
توغل أكثر بدأ يرى بعض الأسماك
حاول أن يمسك ببعضها وياللعجب .. بدأ يمسكهم بسهولة ويضع في كيس يحمله معه .
كان يشعر وكأن الاسماك تقفز نحوه مرحبة به من فرط سهولة اصطيادهم.
أين أبوه ليرى كم هو ماهر في الصيد والسباحة .. كم كان حبيسا لتلك الأفكار القديمة.
وفجأة ظهرت سمكة جميلة جدا وكبيرة جدا .. ما أجملها
لابد أن يأتي بها .. لقد فتن بها وبجمالها .. لابد أن يعود بها
مد يده ليمسكها ولكنها لم تكن كغيرها .. لقد تفلتت منه
رآها تبعتد عنه .. فتقدم أكثر في البحر نحوها يريد أن يمسكها واقترب مرة ثانية .. ولكن ابتعدت مرة أخرى ..
بدأ يشعر أنه يبعد عن الشاطئ كثيرا .. ولكنه قال في نفسه .. هذه وأعود ..
لابد أن أعود بشيئا كثيرا .. لابد من المغامرة حتى أنول المجد
تقدم أكثر في البحر وأكثر واكثر ومرة تلو المرة والسمكة تراوغه ..
استمر وراءها واقترب منها اكثر واكثر فقفزت مبتعدة فاسرع ورائها و فجأة ................................
لم يجد الأرض من تحته ..
لقد توغل كثيرا ..
عبثا يضرب الماء بيديه وقدميه ولا يجد سبيل ..
وقع الكيس من فوق كتفه ورأى بعينه الأسماك التي جمعها تخرج هاربة مبتعدة عنه ..
وكأنها وهي التي غارقة في الماء طول عمرها .. تهرب من الغرق معه .
وهنا ظهرت الحقيقة ..
أحس بالهواء يضيق في صدره ..
وبدأ يرى خيالات وأشباح .. والعبارات تتوالى في رأسه وتملأ قلبه بالحسرة :
ازرع أرضك اليوم وأنت تحدها تحت أقدامك .. قبل ان يأتي يوما تشتهي الأرض ولا أرض تحتك.
آااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ااااااااااااااااه ياللحسرة
واخسارتاه .. واخيبتاه
شعر بالمرارة تمزق قلبه مع اختفاء الهواء من صدره وكأنه هو الآخر يتبرأ منه
بدأ يشعر بتخاذل روحه .. والماء يضغط على صدره وكأنه يضمه ضمة مودع
تتوالى العبارات وجسده يهبط أكثر وأكثر وقد خارت قواه .. ويغوص ويغوص ويغوص ومع آخر أنفاسه في الدنيا وقبل أن يستقر جسده في قاع البحر يفتح عينه .. فتتراءاه في خيالاته صورة والده وهو يردد برتابة :
ومنهم من لم يعود!!!
..
ومنهم من لم يعود!!!
..
ومنهم من لم يعود!!!
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ{177} مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{178}
أي تشابه بين أحداث هذه القصة وأحداث قصة واقعية تخصك .. فهو يضعك تحت طائلة المساءلة الربانية .. فانظر ماذا ستقول لربك ؟!!!!