علي بلد المحمول
يكتبها: فاروق جـــويـدة
يدفع المصريون35 مليار جنيه سنويا في مكالمات التليفون المحمول.. في مصر المحروسة45 مليون مواطن أغلبهم من الشباب العاطل يحملون هذا الجهاز السحري العجيب ويدفعون صباح كل يوم عشرة ملايين جنيه في صورة مكالمات هوائية.. الحكومة وشركاتها تبيع الهواء لمواطنيها والمواطنون بكل السذاجة يدفعون هذه البلايين وهم جالسون فوق تلال الجمجراوىالة..
وإذا كانت هناك حكومة قادرة علي جمع هذه البلايين مقابل بيع الهواء فلماذا فشلت في جمع الجمجراوىالة من الشوارع.. تناقض غريب في الأداء بين قمة التكنلوجيا الهوائية الحديثة وقمة الفشل الإداري في توفير مجموعة من عمال النظافة لجمع مخلفات شعب رضي أن يدفع كل هذه البلايين وهو لا يجد شارعا نظيفـا ولا رغيفـا نظيفا ولا هواء نقيا..
أصعب الأشياء في الدنيا هو لغة الحقائق.. وعندما تصدر هذه الحقائق في صورة أرقام واضحة وصريحة نشعر بمدي مرارتها وقسوتها.. نحن أمام مجتمع اختلت فيه كل الموازين والقيم..
في وقت لا نجد فيه الكميات اللازمة من الأمصال لمواجهة كارثة تسمي إنفلونزا الخنازير.. وفي وقت نستورد فيه80 ألف جرعة للحجاج وكبار المسئولين في الدولة.. وتعجز الحكومة الالكترونية عن توفير الموارد المالية اللازمة لاستيراد كميات من الأمصال والأدوية لمواجهة هذا الوباء الخطير تقرأ مانشتات الصحف وهي تعلن أن المصريين يدفعون35 مليار جنيه سنويا في المكالمات التليفونية..
في المقابل نجد دولة شقيقة مثل الجزائر تعاقدت علي استيراد20 مليون جرعة من المصل الجديد.. هل نترك الناس يموتون وهم يتحدثون في التليفون المحمول.. وهل من العقل والمنطق أن يعيش الشعب في حالة رعب أمام وباء خطير ونقول لا توجد الموارد المالية.. وإذا كانت مكالمات المحمول قيمتها35 مليار جنيه فأين تتسرب هذه البلايين وما هو نصيب الشعب منها خاصة أنها أمواله التي دفعها لحكومة تبيع له الهواء وتبخل عليه بالدواء..
إن الرقم مخيف فعلا خاصة إذا أدركنا أن45 مليون مواطن يستخدمون المحمول وهؤلاء معظمهم من الشباب لأن70% من سكان مصر من الشباب وهؤلاء الشباب بلا عمل لأنهم ينتظرون منذ سنوات في طوابير البطالة وهذا كله تبديد للثروة البشرية ممثلة في هذه الأجيال التي لا تعمل واكتفت بالحديث في المحمول.. في كل أسرة الآن ثلاثة أو أربعة تليفونات محمول.. وهذا يعني أن متوسط استهلاك كل أسرة في شراء الهواء من الحكومة هو500 جنيه موزعة علي خمسة أشخاص.. وفي تقديري أن هذا يمثل أسوأ أنواع السفه.. أن يكون مرتب كبير الأسرة ألف جنيه ويدفع نصفها لأحاديث الأبناء في المحمول.. وفي تقديري أننا أمام جريمة مزدوجة شاركت فيها الحكومة وشارك فيها الشعب..
إن التليفون المحمول قمة تكنولوجيا العصر وهو إنجاز حضاري وإنساني عظيم ولكن بقدر ماله من إيجابيات فإن فيه سلبيات كثيرة خاصة في مجتمعات متخلفة لا تدرك قيمة الوقت ومعني الاستثمار الحقيقي لأدوات العصر لأن التليفون المحمول ينقذ مريضا يموت.. ويقتل أيضا شابا بالمخدرات.. وأمام غياب الوعي والأمية والوقت الضائع تجد طوابير الشباب يستهلكون كل هذا الوقت في مكالمات هوائية لا تحقق دخلا ولا تزيد إنتاجـا ولا تدخل في نطاق التنمية الحقيقية بأي صورة من الصور.. سوف يرد البعض علي ذلك بأن هذه المشروعات تمثل استثمارا حقيقيا ورؤوس أموال ضخمة فهي عمليات إنتاجية متكاملة وأن هذه المشروعات وفرت آلاف الفرص للشباب وواجهت بها الحكومة أزمة البطالة والشباب الذي يتسكع في الشوارع بلا هدف أو غاية..
وأقول إن هذه المشروعات وفرت فرص عمل كثيرة ولكنها قاصرة علي أبناء كبار المسئولين والمحظوظين الذين يعملون في هذه الشركات ويحصلون علي عشرات الآلاف من الجنيهات شهريا.. إن كل شاب من أبناء المسئولين الذين يحصلون علي هذه المرتبات الخيالية يحرم أسرة مصرية كاملة من حقها في حياة كريمة.. أن أبناء المسئولين يعملون فعلا في هذه الشركات ولكن أبناء الشعب هم الذين يدفعون هذه المرتبات الخيالية.. هناك جانب آخر في هذه القضية..
لا أحد في مصر كلها يعرف التكلفة الحقيقية في شركات المحمول وكم تكسب وما هو هامش الربح الذي تحصل عليه طبقـا للمعايير الدولية وهل يتناسب ذلك كله مع سعر الخدمة في دول العالم أم أنها تقرر ما تريد ولا يحاسبها أحد وهل تتبع هذه الشركات المؤسسات الرقابية في الدولة من حيث القواعد المحاسبية والأسعار والدخل..
وماذا عن الضرائب التي تدفعها هذه الشركات وهي تجمع35 مليار جنيه سنويا من جيوب الشعب الغلبان.. هل تسدد ما عليها من الضرائب ولماذا لا تعلن الحكومة الضرائب التي تحصل عليها من هذه الشركات خاصة إذا أدركنا أن هذه الشركات كانت في يوم من الأيام ملكـا خالصا لهذا الشعب وباعتها الحكومة ضمن برامج الخصخصة بسعر زهيد وهل يمكن لنا أن نقارن بين إيرادات هذه الشركات وبين كارثة أسمها الضريبة العقارية ينتظرها المصريون بكل مشاعر الخوف والدهشة..
إن الأخطر من ذلك كله هو غياب الدور الاجتماعي لهذه المؤسسات الضخمة.. إنها فقط تجمع هذه البلايين وتضيفها كل يوم إلي حساباتها دون أن تقوم بأي جهد لخدمة هذا المجتمع..
كم دفعت هذه الشركات لخدمة البحث العلمي في مصر وأين هي من هذه الميزانية المخجلة التي تخصصها الحكومة لأغراض البحث العلمي.. أين هذه البلايين من ميزانية التعليم الهزيلة التي تخصصها الدولة لجامعاتنا العريقة التي أصبحت خارج قوائم الجامعات العالمية المتقدمة..
أين هذه الميزانيات والأرباح الرهيبة من الملايين التي تخصصها الدولة لوزارة الصحة والطبيب فيها يحصل علي150 جنيها راتبا شهريا ومطلوب منه أن يعمل24 ساعة في خدمة المرضي.. أين هذه الميزانيات من ملايين الشباب العاطلين بلا عمل في شوارع مصر المحروسة..
إن ما تدفعه شركات المحمول من إعلانات يمكن أن يكون بندا أساسيا في إنقاذ قطاع من كل هذه القطاعات.. لماذا لا تقرر هذه الشركات أن تقوم باستيراد كميات من الأمصال لتغطية جزء ولا أقول كل احتياجات مصر في هذا الظرف التاريخي الصعب أمام وباء خطير.. أن سعر جرعة المصل يتراوح بين50 و70 جنيها ولو أن كل شركة من شركات المحمول قررت شراء مليون جرعة فنحن أمام ثلاثة ملايين جرعة قيمتها500 مليون جنيه يمكن أن تدفعها شركة واحدة..
لو أن أحدي هذه الشركات قررت أن تقدم دعما سنويا لبرامج البحث العلمي في مصر.. أو قررت تقديم دعم للخدمات التعليمية في إنشاء مدارس أو دعم للصحة بإنشاء وحدات صحية أو استيراد أجهزة حديثة للمستشفيات ومراكز الأبحاث وسيارات للإسعاف والخدمات الصحية..
في تقديري أن هذا أيضا دور الحكومة التي ينبغي أن تفرض فرضا علي هذه الشركات أن تقوم بدورها في خدمة المجتمع وخدمة الشعب الغلبان الذي يدفع كل عام35 مليار جنيه وهو يشتري الهواء, لنا أن نتخيل كم دفع المصريون في عشر سنوات في مكالمات المحمول منذ انتقلت ملكيتها إلي رجال الأعمال..
كم تحتاج قاهرة المعز لشراء مجموعة من المصانع لمعالجة كارثة الزبالة في شوارعنا وبيوتنا.. وإذا كانت شركات الاتصالات قادرة علي توفير هذه الخدمة الهوائية في ظل رعاية كاملة من حكومة التكنلوجيا لماذا لا تستخدم الحكومة نفسها قدراتها المذهلة وإمكانياتها الرهيبة في إيجاد حلول لمشكلة الجمجراوىالة..
أن الغريب في الأمر حقـا أن تجد بعض الوزارات تتسول دعما من الحكومة ولا تجد شيئـا.. بينما هناك وزارات أخري تنفق بسفه دون أن يحاسبها أحد حتي في الوزارات هناك وزارة محظوظة وأخري عاندها الحظ وكل ذلك يحدث بلا أسباب موضوعية..
ليست الحكومة وحدها هي التي تخطيء في الحسابات ولكننا كشعب نرتكب حماقات كثيرة في حق أنفسنا ومصيرنا ومستقبل أبنائنا حين يدفع المصريون بلايين الجنيهات في مكالمات المحمول.. يجب أن يراجع كل واحد منا نفسه وأسرته وحياته كلها أمام هذه السلوكيات الخاطئة التي لا تتناسب إطلاقـا مع مستويات الدخل وفرص العمل وانتشار البطالة..
ومازالت صور هذا التناقض الرهيب والغريب تطاردنا في كل شيء.. هذه القدرات العصرية المذهلة في استخدام التليفون المحمول آخر موضات العصر.. وهذا الفشل المخجل في مواجهة مأساة الجمجراوىالة وشعب يدفع كل هذه البلايين في شراء الهواء بينما هناك أجيال كاملة تتسكع في الشوارع بلا عمل أو أمل أو إنتاج.. وكم ذا بمصر من المضحكات.. رحم الله عمنا المتنبي..